د. عباس شومان

التجديد والإجماع "2"

الجمعة، 28 أكتوبر 2016 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحدثنا فى المقالة السابقة عن المراد بالإجماع، وذكرنا بعض صوره فى عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وبيَّنا أن الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامى، وأنه حُجة شرعية، ومن ثم فإن الحكم المستخلص منه ملزم للمكلفين، وفى هذه المقالة نتناول مدى انعقاد إجماع من أهل زمان يخالف إجماع فقهاء زمان سابق على زمانهم، بمعنى أنه إذا انعقد إجماع الصحابة مثلًا على حكم واقعة معينة وذكروا لها حكمًا بالإباحة أو التحريم أو الندب أو الكراهة، فهل يجوز لفقهاء عصر التابعين مثلًا أو فقهاء عصر تالٍ لهم أن يجتهدوا فى المسألة نفسها مرة أخرى؟
 
هناك اختلاف بين العلماء حول هذا الأمر، وما أراه أن المسائل المجمع على أحكامها، وهى بعد التحقيق العلمى قليلة، حيث إن كثيرًا مما ورد أنه من المجمع عليه يثبت بعد التحرى أنه ليس كذلك، هذه المسائل يصعب أن يتوصل المجتهدون فى زمان ما إلى حكم يغاير الذى اتفق عليه سابقوهم فيها، وذلك لأن اتفاق مجتهدى عصر ما على حكم واحد فى المسألة دليل على تمكن الحكم منها، ومع ذلك فإن ما علمناه مما خلفه السابقون أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وأنه يتغير بتغير الحال والزمان والمكان، ومما تعلمناه من تراثهم، كما ذكر الإمام القرافى، أن «الجمود على المنقولات من الضلال فى الدين والجهل بمقاصد علماء المسلمين»، دون استثناء لحكم مسألة من مسائل الاجتهاد ولو كانت من المسائل المجمع على حكمها، وهذا يرجح جواز إعادة النظر والاجتهاد فى أحكام بعض المسائل المجمع على أحكامها، ولا سيما المسائل التى ترتبط بعلل غير مستقرة، وتلك التى تتأثر بمستحدثات الأزمنة، فسهم المؤلفة قلوبهم، على سبيل المثال، هو أحد مصارف الزكاة كما جاء فى كتاب الله تعالى، وقد كان من المجمع عليه فى صدر خلافة الصدِّيق، حيث إن كل نص قطعى الدلالة فى كتاب الله أو سنة رسوله هو من مسائل الإجماع، فالإجماع لا يختص بالاتفاق على أحكام المسائل التى لم يرد نص فيها، وإن كانت أهميته تكمن فى المسائل التى لم يرد فيها نص، لأن الحجية فيما فيه نص إنما هى من النص نفسه وليس من الإجماع، ومن ثم فإن سهم المؤلفة قلوبهم مستحق لهم بكتاب الله وفعل النبى صلى الله عليه وسلم. وعلى الرغم من ذلك، فقد اجتهد فيه سيدنا عمر فى زمن الصدِّيق، رضى الله عنهما، فرأى وقف صرف الزكاة لهم، لأن العلة التى هى تكثير عدد المسلمين قد زالت بكثرة المسلمين المؤمنين، فوافقه الصدِّيق وبقية الصحابة على ذلك، وامتد الحكم إلى يومنا هذا.
 
وعليه، فإن الاتفاق على حكم مسألة ما فى زمان معين غير مانع من إعادة النظر فيها، مع مراعاة أن ما سقناه فيما يتعلق بحكم سهم المؤلفة قلوبهم مجرد مثال تقريبى لا يبرهن على هذا الرأى، لأنه يختص بزمن واحد وهو زمن الصحابة، كما أن هناك خلافًا بين العلماء فى تسمية اتفاق أهل الزمان الواحد فى حكم مسألة ما بالإجماع قبل فناء فقهاء أهل ذلك الزمان، وما قصدته هنا أنه إذا كان وقوع الاجتهاد والنظر فى مسائل متفق على أحكامها جائزًا إذا كان فى الزمان الواحد ومن المجتهدين أنفسهم، فوقوعه من أهل زمان آخر يتصور ظهور مستجدات تدعو لإعادة النظر فى الحكم أولى. ومن المسائل التى أجمع أهل زمان على حكمها لكنها تقبل إعادة الاجتهاد من أهل زماننا، على سبيل المثال لا الحصر، مسألة إجهاض الجنين بعد أربعة أشهر من حمله، حيث أجمع فقهاء المذاهب على عدم جوازه بحال من الأحوال، خلافًا للحمل الذى لم يبلغ هذه المدة، حيث اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، وعلل الفقهاء عدم جواز إجهاض الحمل بعد بلوغه هذا العمر بنفخ الروح فيه، وكونه أصبح آدميًّا حيًّا وإن بقى متصلًا بأمه لاكتمال مراحل نموه ليكون طفلًا قادرًا على العيش خارج الرحم، فيكون إجهاضه عندئذ من القتل المحرم شرعًا. وقد أيد ذلك الطب الحديث من جهة أخرى، وهى خطورة عملية الإجهاض على حياة الأم، لأن السبب الذى يجوِّز الإجهاض بعد بلوغ الجنين هذا العمر هو الخوف على حياة الأم لمرضها مرضًا يُخشى معه على حياتها، وقد أثبت الطب أن الحالات المرضية التى لا ينبغى للأم أن تحمل معها تكون عملية الإجهاض فيها أخطر على حياتها من عملية الولادة ذاتها، ولكن إذا استطاع الطب أن يتوصل إلى إخراج الجنين من رحم الأم التى هناك خطورة شبه مؤكدة على حياتها بطريقة تضمن غالبًا بقاء الأم حية، فيكون إعادة النظر والاجتهاد فى حكم المسألة من فقهاء العصر معقولًا ومقبولًا فى هذه الحال.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة