عطر الأحباب..أخرجه صلاح أبوسيف قبل 47 عامًا..الزوجة الثانية.. قطعة حزينة من حياة الفلاحين المصريين قبل يوليو 1952..حسن البارودى يتقمص شخصية رجل الدين الممالئ للسلطة بامتياز!

الجمعة، 07 نوفمبر 2014 10:24 ص
عطر الأحباب..أخرجه صلاح أبوسيف قبل 47 عامًا..الزوجة الثانية.. قطعة حزينة من حياة الفلاحين المصريين قبل يوليو 1952..حسن البارودى يتقمص شخصية رجل الدين الممالئ للسلطة بامتياز! الزوجة الثانية
إشراف - ناصر عراق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نقلا عن اليومى..

بعد أربعة أشهر فقط على نكسة 5 يونيو شاهد المصريون فيلم «الزوجة الثانية» للمرة الأولى، وبالتحديد فى 14 أكتوبر من سنة 1967، ومعلوم أن صلاح أبوسيف أقدم على إعداد الفيلم وإخراجه قبل أن تهوى على الرؤوس المصرية مطرقة الهزيمة، لذا فإنه أصرّ على تصوير أسوأ ما فى العهد الملكى من عيوب خاصة فيما يتعلق بحياة الفلاحين المعدمين فى الريف.

لكن السؤال، هل كان أبوسيف سيجرؤ على تقديم الفيلم بهذه الصورة الموجعة لو كان بادر إلى إنجازه عقب الهزيمة؟ الحق أن «لو» لا تصلح فى الحكم لا على التاريخ ولا على السينما، لكن توقيت عرض الفيلم هو الذى دفعنا إلى طرح هذا السؤال الافتراضى، وأغلب الظن أن الفئة المعارضة لثورة يوليو من باشوات العهد القديم ورجاله قد استقبلت الفيلم بامتعاض وسخرت منه من خلال إعلان شماتتها فى نظام يوليو الذى لم يحافظ على حدود الوطن وسمح للإسرائيليين باحتلال سيناء!

على أية حال.. يعد «الزوجة الثانية» وثيقة فنية بالغة الأهمية على المستويات كافة، الفنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو مأخوذ عن قصة لأحمد رشدى صالح، وكما كتب فى المقدمة فإنه من إنتاج شركة القاهرة للإنتاج السينمائى/ من إنتاج خطة 65/ 66، وهى إحدى شركات الدولة، ومع ذلك لم يعرض إلا فى 1967، حيث شهد الجمهور فى ذلك العام 34 فيلمًا جديدًا، وهو رقم هزيل إذا علمت أن المصريين شاهدوا 68 فيلمًا جديدًا فى عام 1954، أى ضعف عدد الأفلام المعروضة فى سنة الهزيمة!
صندوق الدنيا

بحيلة ذكية يستعير صلاح أبوسيف من تراثنا الشعبى لعبة «صندوق الدنيا»، وهى طريقة للسرد تعتمد على الراوى الذى يقص على الأطفال حكاية مثيرة من خلال عرض صور لأبطال هذه الحكاية وبعض مشاهدها رسمها فنان فطرى، وكم كان موفقا حين اختار المخرج الممثل القدير شفيق نور الدين ليلعب دور الراوى ويحكى لنا- بصوته فقط- وقائع الفيلم، بعد أن أخبر الأطفال المجتمعين حول الصندوق فكرة موجزة عن هذه الدنيا وألاعيبها، وكيف تضم الفقراء المظلومين والأثرياء الظالمين، ثم تبدأ أسماء وصور الممثلين تتوالى على الشاشة فى لقطات مصنوعة بطريقة الرسوم المتحركة التى أنجزها عبدالعليم زكى وفريدة عويس، وكانت هذه الطريقة- أى الرسوم المتحركة- رائجة فى مقدمات السينما العالمية فى الستينيات وقد انتقلت إلينا بصورة تلقائية.

يترنم شفيق نور الدين بأسماء الممثلين فى الفيلم وحالاتهم من خلال أغنية كتبها صلاح جاهين ولحنها سيد مكاوى، ونعرف أن ثلاثة كتبوا السيناريو هم محمد مصطفى سامى وسعد الدين وهبة وصلاح أبوسيف، أما الحوار الرشيق الجميل فقد صاغه محمد مصطفى سامى أيضا، وكان التصوير من نصيب المصور الفنان عبدالحليم نصر الذى استطاع أن يلتقط زوايا بالأبيض والأسود بالغة الرهافة والعذوبة، خاصة فيما يتعلق بوجه سعاد حسنى.

مشاهد خالدة

لا يمكن تخيل «الزوجة الثانية» بدون الموسيقى التصويرية الآسرة التى أبدعها فؤاد الظاهرى مستلهمًا الإيقاعات الشائعة فى التراث الشعبى الحزين، وقد برع أبوسيف فى توظيف هذه الموسيقى فى الفيلم من أول المقدمة حتى المشهد الموجع لهروب شكرى سرحان- أبوالعلا- وزوجته فاطمة- سعاد حسنى وأبنائهم وأم الزوج- إذ لعبت الموسيقى والإضاءة الشاحبة لليل الدور الرئيس فى إحساس المشاهد بمدى الظلم الواقع على هذه الأسرة المسكينة التى قررت الفرار من شهوات العمدة وجبروته.

بعد أن تنتهى المقدمة تنفتح الشاشة على القصة الحقيقية للفيلم، فنشاهد العمدة عتمان- صلاح منصور- رمز البطش والسلطة والاستبداد ممتطيا حماره سائرًا فى الطريق بين الحقول وحوله ثلاثة من الخفراء المسلحين بملابسهم الريفية المعهودة، وبصحبته المسؤول المالى العجوز اسطفانوس أفندى الذى يدوّن الحسابات ويزورها لمصلحة هذا العمدة.

يتجول العمدة فى دروب القرية وأروقتها، وبتهديد غير مباشر يستولى على الدجاج والبط الذى تنوى بيعها فى السوق إحدى الفلاحات العابرات فى الطريق حتى لا يجر ابنها- طفلها 11 عامًا- إلى الجهادية! ثم نراه يتلمظ من فرط الشهوة على سعاد حسنى حين يتفرس فى ساقها العارية وهى تغسل المواعين فى الترعة، فيهيم بها طوال الفيلم!

منذ اللحظة الأولى نتعرف على هذا العمدة الذى يمتلك وزوجته حفيظة- سناء جميل- 500 فدان لكنهما حرما من لذة الإنجاب، كما نعلم أيضا ألا حدود للطمع عند هذا الرجل إذ يود أن يستحوذ على 20 فدانا خاصة بشقيقه علوان- محمد نوح- حتى تصبح الفدادين الخمسمائة متصلة ومتجاورة!

يضم هذا الفيلم المتفرد فى تاريخنا السينمائى الكثير والكثير من المشاهد المنفذة باقتدار، خاصة أن الممثلين كلهم يتمتعون بمهارات فائقة استطاع المخرج تفجيرها للنهاية حتى بلغوا جميعًا مستويات غير مسبوقة فى فن التمثيل، خذ عندك مشهد الذعر الذى انتاب العمدة وزوجته لأن الثانية قررت ذبح «وزة» بناء على نصائح الخالة نظيمة التى تداويها لتنجب، والثانى أمر بذبح بطة استجابة «لوصفة» العطار حسن البارودى، ولأنهما بخيلان، فقد أصيبا بالنكد من هذا الإسراف فى تقطيع الرؤوس!

كذلك مشهد تناول العمدة وزوجته «الوزة والبطة» ومع ذلك لم يستطيعا التلاحم من أجل الإنجاب لأنهما غير سعيدين، بينما أبوالعلا وزوجته اللذان أكلا الأجنحة والرأسين فقط ناما سعيدين مستمتعين بالغرام برغم فقرهما الموجع!

أما مشهد التلصص على النساء من ثقب الباب وهن يرقصن ويصفقن فى حفل «السبوع»، ليختار العمدة إحداهن ليتزوجها فيمثل قمة فى التمثيل والإخراج، ولا تنس مشهد إغواء أبوالعلا بالمال ثم تهديده كى يطلق زوجته، وكيف تركز الضوء على وجه شكرى سرحان المغموم.. المرعوب.. المنكسر الذى أجبر على تطليق زوجته بصوت متكسر مجروح، وتأمل كذلك الأداء العبقرى لحسن البارودى الذى يلعب دور فقيه السلطان/ العمدة بمهارة تجعل المشاهدين يكرهونه ويكرهون عمدته!

لا يمكن أن ننسى أيضا الغم الذى انتاب زوجة العمدة حين انفرد بسعاد حسنى، إذ نرى سناء جميل تتنصت عليهما، وعندما تعلم ذلك سعاد حسنى تزيد فى كيدها لها، وتتصنع أن هناك مداعبات بينها وبين العمدة، بينما هو فى حقيقة الأمر يغط فى نوم عميق، هنا تتسلل الزوجة الأولى وتلصق أذنها بالباب، ويعلو صدرها ويهبط من شدة الغل والكمد، ثم لا تقوى على الاحتمال فتصرخ شاتمة العمدة قائلة: «احتشم يا أهبل يا أبوريالة».

يكاد يكون هذا المشهد ذروة المشاهد الجميلة فى «الزوجة الثانية» لما به من مهارات تمثيل وفنيات إضاءة وكيد النساء!

أدوات وطقوس قديمة

يحسب لصلاح أبوسيف أنه تمكن من حشد كل الأدوات التى كان يستخدمها الفلاحون فى مصر فى الزمن القديم وتطعيم مشاهد الفيلم بها قبل أن نلمس ثمار التكنولوجيا، مثل «الكانون» الذى يستخدم لإشعال النار، والرحايا لطحن الحبوب، والحمار والبهائم بوصفها وسيلة مواصلات، وغيرها، كذلك امتاز الفيلم بإطلالة سريعة على العديد من العلاقات والطقوس الشائعة فى الريف المصرى فى ذلك الزمن مثل «السبوع» وحلب الجاموسة وغسيل المواعين فى الترعة واللجوء إلى العطار بدلا من الطبيب للتداوى من الأمراض والرقص الشعبى وحلاق الصحة واستثمار جهل الفلاحين بالعلوم الحديثة، وتبادل المصالح بين العمدة الظالم والمأمور المرتشى إلى آخر ما يتضمنه هذا الفيلم الآسر من علاقات ومشاهد معززة بكتابة عميقة وتمثيل فاتن لا يخلو من سخرية مرة برغم القتامة التى تلون الكثير من اللقطات.

إن فيلم «الزوجة الثانية» تحفة فنية مثيرة تفضح ظلم الحكام على مر العصور وتنتصر للحق والخير والجمال.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة