أكرم القصاص - علا الشافعي

فاطمة ناعوت

أنيس منصور.. سلامًا

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011 04:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن يخاف إلا من البرد! مثل عصفور أُحبُّه، يملأ الدنيا تحليقًا وألوانًا ولوحاتٍ وغناءً ودفئًا، لكنه يخافُ البرد. العصفور الذى ملأ دنياى نغمًا، لكنه أبدًا لا يقفُ على شرفتى إلا مرة كل عام. ينامُ قليلا جدًّا. ويقرأ كثيرًا جدًّا. تعلّمتُ منه الخصلتين معًا، وشقيتُ بكلتيهما معًا.

مات أنيس منصور. وسوف نطالع جريدة الأهرام، ونبحث فى الصفحة الأخيرة فلا نجد عمود «مواقف»، الذى أحببناه صغارًا، وانتقدناه كبارًا. أحببناه فى صبانا لأننا تعلمنا منه نعمة «القراءة». أنيس منصور من الكتّاب القلائل على مستوى العالم الذى امتلك ملكة الكتابة «عابرة الأعمار»، إن جاز التعبير. يقرؤه الصغيرُ فيفهم ويتعلم، ويقرؤه الكبيرُ فيستمتع وإن لم يتعلّم شيئا جديدًا. ربما تكونت لدينا بعض المآخذ على أعمدة أنيس منصور حينما كبرنا ونضجنا وامتهنّا الكتابة ودخلنا مطبخ الإبداع، فصار لنا أن نقبل أو نرفض أو ننقد أو ننقض أو نقيّم ثم نعيد تقييم أساتذتنا الكبار الذين علمونا القراءة ونحن بعد فى سنى أعمارنا الأولى نتلمس طريقنا نحو المعرفة. لكننا أبدًا لا ننسى فضل «المعلم الأول» الذى زرع فينا «الهوس» بالقراءة فى مراحل مبكرة من أعمارنا. أحببتُ أنيس منصور كثيرًا، وانتقدته كثيرًا أيضًا. بتاريخ 25-8-2008، كتبتُ له فى عمودى بـ«المصرى اليوم» رسالة تهنئة بعيد ميلاده «18 أغسطس» بعنوان «عزيزى أنيس منصور، شكرًا». بدأتها قائلة إننى مَدينةٌ له بشكرٍ، فيما هو مَدينٌ لى باعتذار. فأما الشكرُ فلأنه ثانى اثنين أَدينُ لهما بحبى القراءة. الأول هو جدى محمد إبراهيم سليمان، الذى علمنى أن القراءةَ فنٌّ. يتطلب خُطّةً ذات بعد استراتيجى وتكتيك، شأنها شأن المعارك الكبرى. وأما الثانى فهو «أنيس منصور» الذى علمنى أن القراءةَ أسلوب حياة، وطريقٌ لا وصولَ فيها ولا محطة أخيرةً إلا لحظة الموت. فكلنا يعرف أن الأستاذ لم يكن يترك كل ما يمكن أن يُقرأ إلا قرأه، وإن كان ورقة جريدة ملفوفًا بها ساندوتش. من وقتها تلبّسنى هوسٌ بالقراءة كأننى فى سباق ماراثون لا ينتهى. ثم هدأ الأمر واستقرَّ كعادة طيبة لا تفارقنى. أصحو على كتابٍ وأنامُ على كتاب. وطبعًا كان الأستاذُ شاخصى الأولَ، فصوّبتُ صوبه قوسى وقرأتُ كل كتبه مبكرًا جدًّا، وفى هذا وجب شكرٌ ثانٍ. وذكّرته فى مقالى بصبيّة صغيرة استوقفته مرةً فى معرض القاهرة الدولىّ للكتاب منذ عقود. صرختْ فى وجهه أن أسعار كتبه تفوق مصروفها الصغير، فاعتذر الأستاذُ بألا ذنبَ له فى هذا، إنما هو شأنُ الناشر. ثم وعدها بإهدائها إصداراته. لم يفِ أبدًا بوعده، لكن البنتَ كبرت وصدّقته بعدما دخلت لعبةَ الكتابةِ والنشر والناشرين. تلك البنتُ الصغيرةُ هى أنا.

أما الاعتذار الذى طالبته به، فمردّه إلى الأرق الذى يلازمنى منذ الصِّبا. لا أغفو باليوم أكثر من ساعتين. وبعدما حار الطبُّ فى علاجى، استسلمتُ لفكرةٍ خبيثة، أن الأرق انتقل إلىّ من أنيس منصور بالعدوى التليباثية. ولمَ لا؟ ألم يعْدِنى بالقراءة؟ إذًا هو مَن عدانى بالأرق من طول ما قرأتُ عن أرقِه!

غير أنى حللتُه من الاعتذار. فإنما هو «الأرق الجميل» الذى يضاعفُ ساعات اليوم فيضرب أعمارنَا القصيرةَ فى اثنين أو ثلاثة. أعفيتُه أيضًا بعدما علمتُ من أمى أننى ورثت «نعمة» الأرقَ عن أبى رحمه الله، الذى كان يصل الأيامَ بالأيام ساهرًا يتأمل ويقرأ ويُصلّى ويستمع إلى الموسيقى. شكرتُه أيضًا لسبب أرحب موضوعيةً من ذاتيةَ شأنى الصغير. فكوننا ننتمى، من أسف، لمجتمع غير قارئ، فإن له فضلاً فى إجبار النافرين من القراءة على قراءته، لما لأسلوبه من رشاقة وبساطة عطفًا على اكتنازه المعلومةَ والفكرة والإلهام.

غير أننى اختلفتُ معه فى موقفه المرحّب بالتطبيع مع إسرائيل. فميراثُنا المرُّ مع بنى صهيون سيقفُ حائلاً أبديًا دون قبول كيانٍ ناتئ لا محلَّ له من الإعراب فى جسدنا. قد أقبل معاهدة السلام حقنًا لدماء أبناء بلادى الغالية، لكن من العسير مصافحة يد ملوثة بدماء مصرية! كذلك انتقدته لكتاباته المتعالية عن المرأة، وإن اعترفَ أنها من باب المزاح. وأكد ذلك بحبه العميق لزوجته التى أهدى لها واحدًا من أهم كتبه: «فى صالون العقاد، كانت لنا أيام»، قائلا: «إلى التى لولا تشجيعها ما كان السطر الأول فى هذا الكتاب، ولولا تقديرها ما اكتملت هذه الصفحات امتنانًا عميقًا وحبًّا أعمق، إلى زوجتى».

حفظ أنيس منصور القرآن صغيرًا، فانضبط ميزانُه الوجودىّ والنفسىُّ واستقام لسانُه العربىّ، ودرس الفلسفة فانتظم ميزانه التحليلىّ الاستقرائى. حفظتُ بعضَ القرآن مثله، لكن حلمى أن أدرس الفلسفة مثله قوبل بالرفض، فدرست الهندسة التى هى صنوُ الفلسفة. لهذا كتب أفلاطون على باب أكاديميا، التى كان يعلّم فيها طلاب الفلسفة: مَن لا يحبُّ الرياضيات لا يدخل علينا. «فالرياضيات والهندسة منطقٌ وتحليل، تمامًا مثل الفلسفة».

وكانت آخر عبارة كتبها فى عموده «مواقف»، قرأناها يوم وفاته ذاته 21-10-2011، قال فيها: «الدنيا أخذٌ وعطاء: الذين يأخذون يعيشون أحسن، والذين يعطون ينامون أعمق!» وأنت أعطيتَ الكثير والكثير يا أستاذنا الجميل، فنم عميقًا، وسلامٌ عليك.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

صوت الضمير<<<N

ليتك تعلمت منه شىء

عدد الردود 0

بواسطة:

kfs

تحية للغتك العربية

عدد الردود 0

بواسطة:

عاطف ملاك

جميل

مقالة بديعة من كاتبة ذات فكر واسلوب

عدد الردود 0

بواسطة:

ahmad abdelaziz

الى صوت الضمير

عدد الردود 0

بواسطة:

صوت الضمير<N.h

أنا من ضيع فى الاوهام عمرا

عدد الردود 0

بواسطة:

طه موسى

وفـــــاء

عدد الردود 0

بواسطة:

adel george

الي صوت الضمير

عدد الردود 0

بواسطة:

م.محمد

شكرا استاذه

عدد الردود 0

بواسطة:

astakoza

رائعة كلعادة يا باسمهندس

عدد الردود 0

بواسطة:

astakoza

الرائعة فاطمة ناعوت

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة