إبراهيم داود

ليست معركة

الجمعة، 20 مارس 2009 01:06 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحمل خمسة عشر شاعرا عربيا شابا مشقة المجىء إلى القاهرة على نفقتهم الخاصة للمشاركة فى ملتقى شعرى «قرديحى» تستضيفه نقابة الصحفيين، يعنى الحاجة إلى «قاهرة» أخرى، لا تدار شئون الثقافة فيها بواسطة رجال يعيشون أجواء الاتحاد الاشتراكى العربى، ويملكون قدرة نفى من يخالفهم الرأى، أنت أمام مشهد فريد فى الثقافة المصرية، مؤتمر رسمى تنظمه الدولة اعتذر معظم المدعوين إليه، وآخر معنى بقصيدة النثر التى تكتب بالعربية الجميلة ولا يعترف بها أولو الأمر، ولا تعترف بها المعارضة ويحاربها الأصوليون، ويكتبها معظم شعراء هذا الزمان، المؤتمران فى توقيت واحد وفى عاصمة واحدة، دعاة تقديس الماضى يعتبرونها معركة فى الشعر، وهى ليست كذلك، هى أكثر من ذلك، لأن الذين احتكروا الحقيقة هم الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه، والذين حاصروا الخيال الجديد قبضوا ثمن تثبيت المشهد على ما هو عليه، وهم الذين وقفوا ضد التغيير فى شتى مناحى الحياة، حتى لو ادعوا غير ذلك، فى السنوات الفائتة قالوا إننا نعيش زمن الرواية، وإنها أصبحت ديوان العرب وإن الشعر (الذى تربوا عليه فى المدارس) يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يعرفوا بعد أن الحيل القديمة أصبحت قديمة، الحيل التى أجلستهم على «المنابر»، ولم يعرفوا أيضاً أن أجيالاً جديدة ظهرت (وهذه سنة الحياة) تناضل بالكتابة، وتدفع ضريبة كبيرة لكى تشعر بالحرية، ولكى تحرر اللغة من الكوابيس وتجعلها لغة علمانية.. ما حدث فى اليومين الماضيين مواجهة بين طريقتين فى التفكير، بين جيل ينتمى إلى العصر الشمولى ويملك آلياته وصولجانه وفنادقه الفخيمة وجوائزه ومنحه، وجيل آخر على باب الله لا يسعى للمجد ولا للسلطة، ولكنه ينجز شيئا يراه مختلفا، شيئا يعتبره السلفيون ليس شعرا لأنه لم يلتزم بالمواصفات القياسية التى أقرها الخليل بن أحمد الفراهيدى، ولكنه شىء يكتبه معظم شعراء العربية الآن ويتواصلون به ويكتشفون من خلاله صداقات شفافة مع قارئ تعب من الوصاية والاسترخاء الذهنى والبلاغى. بالطبع ليس كل ما يكتب فى الشعر الجديد جيدا ولكن الشعر الجميل غزير ومتنوع ويدعو للتفاؤل.

الرواد الذين يجلسون على المنابر والمنصات قدموا خدمة جليلة للشعر الجديد، لا أحد ينكر ذلك، فيكفيهم كسر هيبة العمود الشعرى المقدس، لأنهم بذلك بدأوا ثورة تزامنت مع حركات التحرر التى اجتاحت العالم فى الخمسينيات والستينيات، وكان لهؤلاء الرواد الفضل فى تحريك الشعر العربى إلى الأمام، رغم احتفاظهم بالأغراض القديمة، من مديح وهجاء وغزل ووقوف على الأطلال، إلى أن جاءت هزيمة 67 فأجهزت على النموذج «الذى أعجب بنفسه» بعد أن صار سفيرا لخيال الحكم الذى دعمه وعضده، (هذه الهزيمة طالت أيضا الغناء والمسرح والترجمة والنقد وفن التلاوة) وظهر شعراء السبعينيات وخاضوا معركتهم بشرف وكتبوا شيئا يعبر عن الانكسار، ولكنهم فقدوا التواصل مع البشر الذين كانوا فى حاجة إلى من يؤكد لهم أنهم يعيشون فى هذا العالم، وتحمل السبعينيون الكثير من النقد والنفى، وخاضوا فيما بينهم معارك سريالية أضرت بتجربتهم، ثم جاء الثمانينيون وعانوا أيضا من نفوذ وجبروت الذوق القديم، ولكنهم وضعوا القارئ هدفا، فرقت قصائد معظمهم.

لأنهم أبناء للقصيدة العربية من امرئ القيس إلى آخر قصيدة تكتب الآن، وكانت الهزيمة الثانية والحاسمة لقصيدة الرواد فى سنة 90 عندما غزت العراق الكويت، ثم جاء الأمريكان بدباباتهم وصحفهم ورجالهم وفضائياتهم فتخلص معظم شعراء الثمانينيات بدون اتفاق من الحيل البلاغية والإيقاعية القديمة وكتبوا بدون اتفاق قصيدة خالية من الأمجاد تشبههم وتؤكد على وحدتهم، قصيدة تشير ولا تفصح، لكل واحد منهم صوته فيها، وتصادقوا بعيداً عن مهرجانات وزارات الثقافة التى تحتفى بنوع معين من الشعراء وبنوع «راسخ» من التفكير، وهؤلاء هم الذين أعدوا للملتقى الأول لقصيدة النثر والتى تستضيفه مشكورة نقابة الصحفيين منذ أمس الأول، ولا يوجد بينهم من لا يعرف قامة أحمد عبد المعطى حجازى الذى يسعى لنفيهم، فهو شاعر كبير ورائد، وله ولموهبته فى القلب محبة (ربما لايدركها) رغم موقفه الغريب من عشرات الموهوبين على امتداد الوطن العربى، هو الذى يدعو للتعدد ولحرية الاختلاف «خارج الشعر» ولكنه ليس مع التعدد والاختلاف فى الشعر، ولا أصدق حتى الآن إنه قال مثلا إن صلاح جاهين وفؤاد حداد مجرد زجالين، ربما لأنه لا يعرف أن حضورهما فى الشعر الجديد الفصيح أقوى من معظم شعراء الرواد.

وأظن أيضا أن القائمين على الملتقى الأول وعلى رأسهم محمود قرنى وفتحى عبدالله إبراهيم وعاطف عبد العزيز وغادة نبيل وفارس خضر وحسن خضر، لا يقصدون الإساءة لأحد، ولكنهم بفروسية وتفان قدموا جميلا للثقافة المحاصرة فى مصر، ويبقى اعتذار واجب لصديقى الكبيرين على أبو شادى وعماد أبو غازى لعدم مشاركتى فى مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة (الذى أتمنى له النجاح)، لأن الشعراء الذين اخترت أن أكون بينهم فى نقابة الصحفيين أقرب إلى روحى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة